الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه الطاهرين أجمعين وبعد:
ليلة القدر ليلة عظيمة جليلة ، قال الله تعالى في محكم التنزيل في بيان فضلها :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}القدر:3.
هذا وقد وردت خمسة أقوال في سبب تسميتها بليلة القدر :
إحداها: أنها ليلة العظمة، يقال: لفلان قدر أي منزلة وعظمة. قاله الزهري، ويشهد له قوله تعالى:{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }. [ الزمر:67].
الثاني: أنه الضيق. أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون. قاله الخليل بن أحمد، ويشهد له قوله تعالى:{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }. [ الطلاق:7 ].
الثالث: أن القدر الحُكم؛ لأن الأشياء تقدر فيها. قاله ابن قتيبة، ويشهد له قوله تعالى:{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }. [ الدخان:4 ].
الرابع: لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر. قاله أبو بكر الوراق.
الخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، وينزل فيها رحمة ذات قدر، وملائكة ذو قدر. حكاه شيخ ابن الجوزي علي بن عبيد الله.
ولا مانع من اجتماع كل هذه المعاني لليلة القدر فهي ليلة القضاء والحكم وليلة التدبير وليلة الشأن العظيم والشرف الرفيع.
لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها في الوتر من العشر الأواخر وإحيائها بالصلاة والذكر والقيام والقربات طلبا للفضائل المجتمعة فيها، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ). [ رواه البخاري ].
ونظراً لأن الحائض يحرم عليها الصلاة ومسّ المصحف فنوصيها بالآتي:
1ـ أن تنوي قبل ليلة القدر وأثناءها "لو لم تكن حائضا لقامت الليلة كلها" حتى يكتب لها أجر القيام، فالأعمال بالنيات، ونية المؤمن تسبق عمله، وقد نصّ العلماء على أنّ المؤمن إن تعذر عليه القيام بعمل لعذر بعد أن ينويه يسجل في صحيفة حسناته.
فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: ( إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ ). [ رواه البخاري ].
وعَنْهُ أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: ( إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! قَالَ: ( وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ ). [ رواه البخاري ].
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ:كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: ( إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْمَرَضُ ). [ رواه مسلم ].
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم عقب الحديث الأخير(6/392):" هَذَا الْحَدِيث: فَضِيلَة النِّيَّة فِي الْخَيْر، وَأَنَّ مَنْ نَوَى الْغَزْو وَغَيْره مِنْ الطَّاعَات فَعَرَضَ لَهُ عُذْر مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَاب نِيَّته، وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ التَّأَسُّف عَلَى فَوَات ذَلِكَ، وَتَمَنَّى كَوْنه مَعَ الْغُزَاة وَنَحْوهمْ كَثُرَ ثَوَابه".
والمعنى العام من هذه الأحاديث أن المرء يؤجر على نيته إذا حبسه العذر، والحائض حبسها الحيض عن القيام وقراءة القرآن فيكتب لها الأجر إن نوت.
قال صاحب كتاب الوافي: " من نوى عملا صالحاً، فمنعه من القيام به عذر قاهر، من مرض أو وفاة أو نحو ذلك فإنه يثاب عليه " .
2ـ الإكثار من الذكر:
يجوز للحائض الذكر مطلقا كالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ونحو ذلك من الباقيات الصالحات وقراءة القرآن دون مسّ للمصحف عند المالكية .
3ـ الإكثار من الدعاء وخاصة الدعاء الذي ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها، فعنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الخمسة غير أبي داود، وصححه الترمذي والحاكم.
4ـ الإكثار من الاستغفار.
5ـ الإكثار من الصدقات.
6ـ الدعوة إلى الله تعالى وذلك من خلال حثّ الزوج والأولاد على قيام هذه الليلة الفضيلة، فالدالّ على الخير له كأجر فاعله .
7ـ الاستماع للمحاضرات الإيمانية.
8ـ الإكثار من القربات الأخرى مثل صلة الأرحام ونحوها.
والله تعالى أعلم
المجلس الإسلامي للإفتاء
1/9/2008