بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
جاء الإسلام ليحكم شؤون الحياة كلها صغيرها وكبيرها , وقد طبقه المسلمون كما فهموه في سائر الجوانب الحياتية من جنايات ومال وزواج وعلاقات دولية واقتصادية وغير ذلك , وقد صنفت لهذا الأمر الكتب الفقهية التي تعالج جميع المسائل الفقهية في الزكاة والحدود والعقود وما إلى ذلك .
وبقي الأمر على ما هو عليه إلى أن بدأ الضعف والخلل يتسللان إلى جسم الدولة الإسلامية العثمانية , نتيجة لعدم فهم الإسلام وسوء تطبيقه ونتيجة للغزو الفكري الذي غزا بلادنا , فأصبح أبناء المسلمين يخرجون إلى أوروبا للتعلم والحصول على الشهادات العلمية التي تحقق لهم الوظيفة والمكانة دون أن يكون لديهم حصيلة في العقيدة ورصيد من الفكر والإيمان , فبهروا بالحضارة الغربية وأرادوا تقليدها بكل ما تملكه من علم وعادات وتقاليد وثقافة , وبدأ يظهر في بلاد العرب والمسلمين جمعيات ولجان تحمل الأفكار الغربية في نظرتها إلى الدين على أنه عامل تخلف ورجعية , وبدؤوا بإشاعة هذه الأفكار المسمومة التي وإن كانت صحيحة بالنسبة للغربيين إلا أنها لا تنطبق على الإسلام الذي ينظر إلى العلم والتطور على أنه وسيلة وواجب لإحياء خلافة الله على أرضه , فبدأ الانهيار في الدولة الإسلامية وبدأ المثقفون بالثقافة الغربية ينشرون أفكارهم المسمومة , فكان تقسيم المحاكم إلى محاكم مدنية تهتم بكل قوانين الإنسان الفردية والجماعية وأبقوا على المحاكم الشرعية التي تختص فقط بالزوجية وأحكامها وآثارها , وقد سميت بعد ذلك بالأحوال الشخصية , وكان إبقاء هذه الأحكام لاختصاصها بالفرد واتصالها به اتصالاً مباشراً , فكان صعباً على المجتمع الإسلامي أن يقبل قوانين غير القوانين الشرعية , وهي الآن الموجودة في العالم العربي والإسلامي وتطبق في جميع الدول العربية والإسلامية , ومنذ أعوام تبذل جهات نسوية مشبوهة جهوداً كبيرة لضرب قانون الأحوال الشخصية – آخر معقل للمسلمين يحتكمون فيه إلى الشريعة الإسلامية – وقيام هذه الفئات الممولة من جهات أجنبية بالسعي الحثيث غير المبرر لإلغاء هذا القانون من خلال ( علمنته ) أو السماح للمسلمين بالاحتكام إلى المحاكم المدنية يحمل مخاطر جمة شرعية واجتماعية .
إن القبول بهذا التعديل أو الدعوة إليه إنما هو دعوة صريحة للخروج عن أحكام الشريعة والدخول في المحظور الشرعي الذي قد يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى .
قال تعالى : { ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } . [ المائدة : 44 ] .
وقال تعالى : { ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } . [ المائدة : 45 ] .
وقال تعالى : { ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } . [ المائدة : 47 ] .
وقال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } . [ المائدة : 50 ] .
وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } . [ النساء : 65 ] .
وقال تعالى : { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون . إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } . [ النور :47- 48 ] .
وقال تعالى : { ... أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين . وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم . وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } . [ الأنعام : 114- 116 ] .
فهذه الآية تبدأ بالسؤال الإنكاري { أفغير الله أبتغي حكماً ... } الذي يفيد أن الحاكمية لله وحده هو الذي ينبغي أن يتخذ حكماً ولا ينبغي لأحد غيره أن يحتكم إليه في أمر من الأمور ثم تفيد أن الله قد أنزل الكتاب مفصلاً فلم تعد هناك حاجة لأحد أن يتخذ حكماً غير الله في أمر من الأمور , فالداعي إلى تعديل هذه الأحكام الشرعية هو داع إلى ترك الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء , والله تعالى يقول : { ... فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا . ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا } . [ النساء : 59- 60 ] . والطاغوت هو كل متعد وكل ما عبد من دون الله .
فقد ذكرت هاتان الآيتان أن علامة الإيمان القبول والرضا بتحكيم الله في كتابه وتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته , وعلامة النفاق عدم الرضا والاحتكام إلى الله ورسوله .
وعليه فقد بات على كل مسلم في هذه البلاد أن يرفض هذا التعديل المقترح قولاً وعملاً , وأن يعمل على إسقاط هذا الاقتراح ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
والله تعالى أعلم